شوف تشوف

الرأيثقافة وفنمجتمع

الأمراض والانحطاط الحضاري

بقلم: خالص جلبي

 

مشكلة العقل البشري أنه يريد دوما فهم الكون على أساس هندسي، فيحاول انتشاله من الفوضى إلى النظام. ويضغط للتعقيد في قوانين، ويحول لغة الكون إلى معادلات رياضية كما فعل ذلك غاليلو.

وكما يقول محمد كامل حسين، في كتابه «وحدة المعرفة»: في الكون نظام وفي العقل نظام، والعلم هو المطابقة بينهما، وهو أمر ممكن ولولا ذلك لأصبحت المعرفة مستحيلة.

وأمام الصياغة المحكمة لجدلية الكون، ينزع المفكرون والفلاسفة إلى تفكيك التعقيد، واكتشاف قانون أعظم يفسر الأشياء. ففي الفيزياء استطاع العلماء إماطة اللثام عن خمس قوى أساسية تحكم الوجود، هي الجاذبية والكهرباء والمغناطيس وقوى النواة القوية والضعيفة. ثم دمج ماكسويل في القرن التاسع عشر بين الكهرباء والمغناطيس، فخرج بالقوة الكهرطيسية.

وحاول أينشتاين، خلال عشرين سنة الأخيرة من حياته، أن يدمج الجاذبية مع بقية القوى بدون نجاح. وحاول ستيفن هوكينغ أن يدمج بين أهم علمين، هما النسبية وميكانيكا الكم، فلم يوفق.

ويرى كثير من الفيزيائيين أن قوى الوجود مع بداية الكون كانت مدمجة في قوة واحدة (توحيدية) متفردة، قبل الانفجار العظيم الذي تم قبل 13,7 مليار سنة، فولد الكون كله بكل مجراته. فقال له الله كن فكان، بعد أن لم يكن شيئا مذكورا. وهذه النظرية (أكرر نظرية وقد نصل بعد حين إلى تعقيد آخر مختلف عن نشأة الكون، وقد نشرنا مقالا لعالم فيزيائي أنكر كل النظرية).

والتحدي اليوم هو في صياغة موديل موحد للكون، حاوله رهط من الفيزيائيين الذين اجتمعوا في بوتسدام مع نهاية القرن العشرين، بما هو أهم من اجتماع تشرشل وروزفلت وستالين لاقتسام العالم، هنا للتفاهم حول توحيد العالم.

وهذه المعضلة نفسها واجهت من حاول فهم قوانين التاريخ، فهناك من جنح إلى (التفسير المادي للتاريخ)، وهم الشيوعيون فجالوا في بيداء الوهم والغلط. وفي الثمانينيات كتب جلال كشك سلسلة من خمس مقالات في مجلة «الحوادث»، عن (التفسير النفطي للتاريخ)، ونقل توقعات المراقبين الدوليين عن قرب مجاعة نفطية. والذي ثبت أن اكتشاف النفط زاد والمجاعة لم تحدث، وهي تذكر بتشاؤمات مالتوس، القس البريطاني الذي كتب عن تزايد السكان، وأن الغذاء لن يكفيهم، والتي ستحل المشكلة هي المجاعة أو الحروب، أو الاثنتين معا. والذي حدث بعد ذلك أن أحرق فائض الغذاء من أجل الحفاظ على الأسعار، وسبحت أوروبا في فائض الزبدة.

وهناك من كتب عن (التفسير الاقتصادي للتاريخ) وأن محركه المال، كما أظهرتها مقالة فرانسيس فوكوياما عن (نهاية التاريخ)، وأن النظام الاقتصادي العالمي سيتحول إلى الشكل الليبرالي.

وهناك من فسر التاريخ بدوافع الغريزة، وفي كتاب «ما هو التاريخ؟»، لإدوارد كار، وقف أمام ظاهرة محيرة عن أثر المرأة في التاريخ سماه «قانون أنف كيلوباترا»، وهو أن هذه المرأة الساحرة بأنفها الجميل كادت أن تغير التاريخ.

وفي مجلة «دير شبيغل» الألمانية قام أحد العلماء باستعراض مثير، حينما أراد عكس اتجاه التاريخ، فقال لو افترضنا أن نابليون لم يظهر في التاريخ أو بسمارك أو تيمورلنك، ما هي احتمالات تطور التاريخ؟

وعلى هذا المنحى سار برتراند راسل، في كتابه «النظرة العلمية»، حينما قال إن اغتيال أو قتل بضعة رؤوس من التنوير كان سيقضي على عصور التنوير، مثل غاليلو وكوبرنيكس وداروين وديكارت.

ولكن الشيء المثير مما قرأته عن تفسير التاريخ، هو (أثر الأمراض في انحطاط التاريخ)، وانتبه إليه (ابن خلدون)، حينما تحدث عن الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة (1348م)، الذي تحيف الأمم وجاء للدول فقلص من ظلها، وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال، بل رأى فيه تفسيرا في سقوط الحضارة الإسلامية، فيقول: «وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة».

لقد كان عبقريا في التقاط هذه اللحظة التاريخية، وهي لمعة في فضاء الفكر سماها ابن خلدون (الحكم القريبة المحجوبة).

وهناك بعثة علمية كندية انتشلت جثث خمسة من العمال النرويجيين، قضوا حتفهم بجائحة الأنفلونزا عام 1918 م لعزل الفيروس القاتل، وكان ما عرف بالجريب الإسباني يومها قد قضى على عدد من البشر في أربعة أشهر، أكثر مما أفنت الحرب العالمية في أربع سنوات، فمات من الناس 25 مليون نسمة.

وأهمية هذه الدراسة أن الأمراض تغير مجرى التاريخ؛ ففي أثينا أنهى مرض اللويموس عام 430 قبل الميلاد العصر الذهبي فيها. وبعدها بألف سنة، حولت الملاريا روما إلى خرائب. وفي عام 1348 وما تلاه مات بالطاعون في أوروبا 25 مليون نسمة، ولم يكن عدد سكانها يتجاوز المائة مليون. وهلك 90 في المائة من سكان الأمريكتين، بسبب الجدري، أكثر من ذبح الغزاة الإسبان.

واليوم العالم مهدد بمرض الإيدز وكوفيد، وعودة الجراثيم القاتلة التي ظننا أنها انتهت، فالسل يزحف، والملاريا تعند، وتبرز إلى السطح جراثيم ملعونة لا ينفع فيها أي صاد حيوي، (كما رأينا عام 2019 كوفيد الذي أخذ ثلاثة من أخلص أصدقائنا في مونتريال، منهم صديقي طبيب العائلة الدكتور بشار الصلح، في 9 فبراير من عام 2022م). وتخصص أمريكا خمسة مليارات استعدادا للقاح الجدري، بعد أن ودعته عام 1972م. وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر.  

 

نافذة:

الشيء المثير مما قرأته عن تفسير التاريخ هو أثر الأمراض في انحطاط التاريخ وانتبه إليه ابن خلدون حينما تحدث عن الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى