(الأكحل) العرق الذي لا يرقأ إذا نزف
تذكر السيرة النبوية أن المسلمين تعرضوا لمحنة كبيرة كانت من منعطفات التاريخ الإسلامي أثناء تدشين تجربة الإسلام الأولى في مجتمع المدينة، تلك التي سميت معركة الخندق أو الأحزاب. فلم تجتمع قوة ضاربة في الصراع الذي نشب بين الرسول (ص) وقريش كما حدث في معركة الأحزاب هذه، حيث حشدت الجزيرة العربية أعظم قوة في تاريخها بما فيها الطابور الخامس المتمثل بيهود بني قريظة، حيث نقضوا عهدهم مع الرسول (ص) في الوقت الذي كانوا يمثلون جدار الحماية الخلفية للأمة الإسلامية في المدينة المنورة.
سميت معركة الخندق بهذا الاسم لأنه تم إدخال تكتيك جديد مستورد من معارك الإمبراطورية الفارسية، وهو حفر الخنادق، مما شكّل لأبي سفيان قائد القوة الضاربة مفاجأة غير سارة، له والقبائل المحتشدة معه، وانبنى عليها القتال من بعيد أي بسلاح المقذوفات من أمثال السهام والرماح والحجارة.
في هذه المعركة التاريخية الحاسمة حوصر المسلمون وهددت النواة الجنينية الإسلامية المتشكلة بخطر الإبادة الفعلية، وحتى نستطيع فهم الظروف النفسية التي كان يعيشها المسلمون في تلك اللحظات الحرجة لنتأمل هذه الآية: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا).
كان المنافقون يضحكون على المسلمين فيقولون كان محمد يعدكم بكنوز كسرى وقيصر وأحدكم لا يأمن على نفسه اليوم من الذهاب لقضاء حاجته، ويستأذن فريق منهم النبي فيقولون إن بيوتنا لعورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا، ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة (الارتداد) لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا.
حدثت واقعة فردية في خضم هذه المعركة لفتت نظري في ضوء التطورالجديد لجراحة الأوعية الدموية، وهي إصابة الصحابي سعد بن معاذ (ر) حيث قضى نحبه منها لاحقا.
تقول السيرة إن الصحابي الجليل سعد بن معاذ (ر) استدعاه الرسول (ص) للحكم في الطابور الخامس، فكان ضعيفاً مرهقاً إلى الدرجة التي لا يتمكن فيها من النزول عن ظهر حماره، فيقول الرسول (ص) لمن حوله قوموا إلى سيدكم سعد فأنزلوه.
كان السبب في ضعفه إصابته بسهم جعله ينزف بغزارة مما أرهقه إلى حد كبير، وذكرت كتب السيرة أنه أصيب في (أكحله) فما هو الأكحل هذا يا ترى؟
تعرف كتب السيرة والأدب أن الأكحل هو عرق إذا أصيب فإنه لا يرقأ! إذن حسب مصطلحات الطب الحديثة هناك إصابة شريانية ولشريان كبير لا يرقأ، أي لا يكف عن النزف حتى يقضي على صاحبه، وهو ما حدث فعلاً مع الصحابي الجليل، كما نفهم أنه كان من النوع الذي ينزف إلى خارج الجسم وليس داخله، تحت كلمة الصحابي (وإلا فافجرها علي).
كانت العادة الدارجة في أيام الجاهلية، والإسلام بعدها، مقاومة الجروح والنزوف في حال وقوعها بالكي، أو حرق حصيرة ووضع رمادها على مكان الإصابة. وبالنسبة للكي فنحن مازلنا نطبقه في النزوف الطفيفة والسطحية في قاعات العمليات الجراحية، وهو أيضاً ما عالجت به فاطمة الزهراء (ر) أباها الرسول في معركة «أحد» حين جرح.
ولكن لماذا كانت إصابة الصحابي سعد بن معاذ غير قابلة للمعالجة بإمكانيات تلك الأوقات؟
لننظر في ضوء التطور الجديد لجراحة الأوعية الدموية إلى نوعية إصابات الأوعية ومدى معالجتها في مراكز جراحات الأوعية الدموية، خاصة بعد حرب كوريا في الخمسينات من القرن الفائت، من خلال تطوير الملاقط الخاصة بمسك الشريان وإحكام إغلاقه باعتباره (حنفية دم) دون أذيته، والمواد المميعة للدم من أمثال الهيبارين والوارفرين، والتكنيك الخاص بخياطته أو ترقيعه أو تسليكه وإعادة ضخ الدم فيه، أو حتى بتعويضه بالكامل، بعد أن أمكن تصنيع شرايين جديدة من مواد صناعية جديدة قابلة للبقاء في الجسم الإنساني وبتحمل كامل، مثل التفلون والداكرون والدارديك، بدون طرد أو طرح أو رفض، بالإضافة إلى الخيوط التي تضم وتلحم الأطراف المقطوعة، والتي تبقى مع الجسد حتى القبر مثل البرولين، وهي الخيوط غير قابلة الذوبان، على النحو الذي عرض في قصة المحقق الأمريكي كولومبو حين عمد الجراح إلى خياطة دسامات القلب بخيطان الكتكت وهي تذوب في أيام فيموت المريض ولا يفطن أحد إلى السبب.
إن مكان إصابة الشريان ذو أهمية بالغة، فمع الاقتراب من المركز يزداد حرج المكان، وهو سبب لموت الجنود في ساحات القتال حتى اليوم الراهن ومصرع خيرة شباب سوريا في الثورة برصاص وقنابل بشار البراميلي، فانقطاع الدم لمدة خمس دقائق عن الدماغ، بقطع الشريان السباتي المغذي له، يحرق الكمبيوتر العلوي حسب مكان التروية بلا عودة، كما أن انصباب الدم من الشريان الأبهر الصدري لدقائق معدودة كاف لتصفية دم المصاب، فإذا كانت الإصابة في الأطراف اعتبرت الإصابات دون المرفق باتجاه المحيط وما تحت الركبة أقل خطورة بشكل نسبي خاصة في تهديدها الحياة دون الطرف.
وفي ضوء أخبار السيرة هل يا ترى يمكن التكهن أين كان موضع إصابة الصحابي؟؟
حسب الرواية المذكورة عن عائشة (ر) أنها رأت سعداً يومها وهو يرتجز بعض الشعر، وقد لبس درعاً قصيرة قد برزت منها ذراعاه، وكانت النساء قد وضعن في الحصون (الآطام) في ذلك الوقت، وذكرت لمن حولها خشيتها عليه من الإصابة، فإذا كان الجرح في الطرف العلوي، وكانت الإصابة وعائية شديدة النزف، وكان العرق المصاب لا يرقأ، أي لا يكف عن النزف، فإن الذي حدث مع الصحابي أنه أصيب في الغالب بإصابة مباشرة بالسهم الحاد في الشريان الإبطي أو قريب منه، وعلى ما يبدو من الرواية أن النزف توقف لفترة قصيرة، وهو ما يحدث أحياناً في الإصابات الشريانية، حيث يقوم الشريان بآلية خاصة في الدفاع عن نفسه هي انقباض نهايتيه، وبهذه الطريقة الدفاعية فإن الشريان يرقئ نفسه بنفسه، وينغلق الشريان في أسلوب دفاعي للمحافظة على الحياة، إلا أن الشريان الكبير قد يتوقف فيه النزف إلى حين لينفجر بعد ذلك بشكل مرعب يقضي على المريض في فترة خاطفة. وهو الذي حدث مع الصحابي سعد بن معاذ (ر).
عندما نسمع هذه القصة وأمثالها من مثل طعن عمر (ر) من أبي لؤلؤة الفارسي، حيث شرب عمر (ر) الحليب ليستوثق من مكان الإصابة فلما رأى الحليب يخرج من بطنه أدرك أنه قد انتهى، وهذا يدل على أن الإصابة كانت غير نازفة ولكن ثاقبة للأمعاء، وكان يمكن معالجة هذه الإصابة بسهولة من خلال فتح بطن استقصائي يتم فيها خياطة المكان المصاب، لو عاش عمر (ر) في أيامنا!
كذلك نسمع عن موت الإمام الشافعي بباسور نزفي بعمر الخمسينات وهو ما يعالج بكل بساطة في هذه الأيام، كذلك إصابة الإمام علي كرم الله وجهه بجرح في الرأس، حيث عاش بعده لفترة أيام، وما قضى عليه في الأغلب هو الجرح الملوث، الذي يمكن تطهيره وتنظيفه وخياطته ببساطة هذه الأيام.
كذلك تروي لنا ذكريات القاضي ابن شداد عن قصة نادرة لموت السلطان صلاح الدين الأيوبي، حيث أصيب بيرقان حاد وتجفاف وضعف عام، لا ندري هل كان التهاباً حاداً في الكبد أم انسداداً في الطرق المرارية، المهم أن مجمع الحكماء الذي اجتمع اتخذ قراراً كان بمثابة الضربة القاضية، التي أودت بحياة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، حيث اهتدوا إلى الفصادة طريقاً للعلاج، والفصادة معناها خسارة المزيد من السوائل، فأسلم إلى الموت بالإمكانيات الطبية الهزيلة تلك الأيام، وبالطبع فهم معذورون لهزالة المعلومات في تلك الأيام عن التشريح والآليات الإمراضية والفيزيولوجيا المرضية وديناميكية سوائل البدن، والجراثيم وطرق إضرارها، والطرق المرارية، بل وكيفية حدوث اليرقان الذي مازلت أتذكر من طفولتي معالجته بمفاجأة المريض بخبر كاذب مروع يحدث عنده صدمة رعب هائلة تقوده إلى الشفاء بزعمهم، لأن المرض حدث بنوبة خوف مريعة بالأصل؟!
وقبل هذا وفاة الرسول (ص) بالحمى التي استمرت على ما يبدو لعدة أسابيع، ربما كانت حمى تيفية أو مالطية، حيث ذكرت السيرة أنه كان (ص) يسعى لتبريد الحر بالمغاطس المائية الباردة، وكان يتعرق بشدة، وهي حالات يمكن معالجتها بسهولة هذه الأيام بالصادات الحيوية وخافضات الحرارة، ويأسف الإنسان أن الرسول (ص) مات عن عمر صغير نسبياً (63 عاماً) وهو ما يعيشه الناس بكل سهولة هذه الأيام وبنشاط.
بالطبع إن مثل هذه الإصابات لم يمكن معالجتها لولا التطور الطبي الحديث، حيث برزت الجراحات الحديثة ومنها جراحة الأوعية الدموية التي نحن بصددها الآن، والتي لم تتطور فعلياً إلا منذ حوالي ثلاثين سنة.
وحتى الحرب العالمية الثانية كانت إصابات الأوعية الدموية تمثل تحدياً فظيعاً في وجه الجراحين وهي التي تقتل الثوار في سوريا بقاذفات بشار الكيماوي.
لذا نقول من هذا التحقيق القصير إن إصابة الصحابي (سعد بن معاذ) كانت في الغالب إصابة من النوع الشرياني، وفي منطقة الشريان الإبطي بقطع كبير وربما كامل، وهذا ما يحتاج إلى تصنيع الشريان، وكان هذا يتطلب لمعالجة سعد بن معاذ أن ينتظر تطور علم الطب كليةً، وترقي فن التعقيم، واكتشاف كم هائل من المعلوات الطبية التي تشكل الأساس لمثل هذا التداخل الجراحي.
إن مثل هذه الإصابات نتدخل عليها بسهولة نسبية هذه الأيام، كما حدث معي في القصيم في السعودية حين نقل لنا شاب أصيب بطعنة حادة في كتفه الأيسر أدت إلى قطع الشريان الإبطي بالكامل مع قطع العصب الزندي، واختراق كامل للوريدين المرافقين.
نعم استطعنا أن نصلح الشريان المصاب والأوردة المرافقة، وعاد الدم يتدفق للطرف المصاب، وتم إنقاذ الطرف المصاب من البتر ولم نخسر المريض بالوفاة، كما حدث مع الصحابي الذي مات بالنزف الصاعق، إلا أن إصابة الأعصاب ما تزال تشكل تحدياً في وجه الطب، لأن السيالة العصبية لا تعود للتدفق كما هو الحال في الدم، حتى لو تمت خياطة العصب مجهرياً، ونأمل أن لا يطول ذلك اليوم الذي يتغلب فيه الطب على معضلة قطع الأعصاب وإعادة خياطتها.