شوف تشوف

الرأي

اختلالات ميدانية في قطاع الصحة العمومية (1/2)

بعين رجل الصحة الممارس والمعايش والمتابع لواقع قطاع الصحة العمومية بالمغرب، وبعيدا عن وهج وبريق تلك الاستراتيجيات الحالمة المزدحمة بالكثير من الأحلام والأوهام والأرقام، أرصد لكم بعضا من الاختلالات الميدانية من واقع الممارسة المهنية اليومية، وكذا من معاناة المواطنين اليومية والناتجة عن قصور في النظام العام للصحة Système de santé وطريقة اشتغال وسير قطاع الصحة بالمغرب.
إنه التشخيص المعروف الذي يجمع عليه كافة رجال الصحة ونسائها من ممرضين وأطباء وإداريين حيث يعزون مختلف الاختلالات التي يعانون منها بدورهم إلى مشاكل وهفوات في النظام العام لتسيير القطاع ككل.
بداية لن يكون الموضوع بكائية على واقع الصحة بنظرة سوداوية لا أمل فيها، أو بأسلوب التشكي الذي لا منطق فيه للإصلاح، بل نطرح هذه الاختلالات من صميم الواقع في غير تأثر بإكراه سياسي ولا تضييق مهني، على أمل تنوير الرأي العام وتشخيص صحيح لحقيقة الداء قبل كل شيء، ومعروف عندنا في الصحة والطب أن التشخيص الصحيح والصائب للمرض يسهل وصف الدواء الناجع ويعجل بالشفاء المانع.
كما أن الموضوع لن يكون على خلفية أن لا شيء ينجز في القطاع والميدان وإلا فإننا نتنكر لدورنا الإنساني بالأساس في هذا القطاع الحيوي، بل لا يخلو قطاع الصحة من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من العناية بصحة المواطن وحفظ كرامته واحترام خصوصياته، وحتى في مواقع المسؤولية هناك منهم، وإن كانوا قلة، من لديهم نية طيبة لإصلاح القطاع الذي يعتبر أولى الأولويات وأولى مراتب حقوق الإنسان في أصفى منابعها والتي تعتبر الحق في الحياة والصحة الجيدة وبالتالي كرامة الإنسان أكثر الحقوق صونا وإلحاحا، ولكن هل سيتحسن القطاع ويتطور ويرقى فقط بجهود بعض الأشخاص هنا وهناك؟
عودة إلى الموضوع فإني أقول إن الاختلالات التي يعيشها قطاع الصحة العمومية بالمغرب ومحاولة الإحاطة بها لا يمكن حصر ذلك في مقال ولو كان مطولا، فهي اختلالات شاملة تمس الكثير من النواحي تأثيرا وتأثرا، واختلالات هذا القطاع تتجلى بنيويا، إداريا، سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا أخلاقيا وثقافيا.. هكذا فلا يكفي ولا يعقل إيعاز مشكل معين فقط إلى شح الميزانية مثلا، وإن كانت ميزانية الصحة من أضعف الميزانيات والاستثمار في الصحة بالشكل الصحيح والصحي دون المساس بصحة وكرامة الإنسان المغربي لازال ضعيفا.
إن الإصلاح في قطاع الصحة كما سائر القطاعات في المغرب يجب أن يبدأ من الإنسان أولا، وكل شيء مبدؤه ومرجعه إلى الإنسان، أما القوانين التنظيمية والمنشورات الوزارية والمواثيق المهنية فهي وسائل تؤطر ذلك الإنسان ليحسن عمله أكثر ويجوده ويحسنه.
بعد أن حددنا بعض الإطارات العامة للموضوع سنحاول رصد بعض الاختلالات رغم أن المرء سيحار من أيها يبدأ، ولكن مادامت مسؤولية القطاع تقع أولا على المسؤولين فيه فلتحدث عن بعض التجاوزات والسقطات التي تعتري بعض مسؤولي القطاع من وقائع معاشة ورصد ميداني.
وأول مثال يمكن إيراده والذي تمثل فيه وزارة الصحة إداريا في الإقليم والجهة، هي المندوبيات والمديريات التي يقع على كاهلها أمر تدبير القطاع في الإقليم أو الجهة، حيث يتسم هذا المستوى بالكثير من النقائص التي توثر سلبا على صحة المواطن في الأخير وعلى وضعية المهنيين ومستقبل القطاع ككل، فحين يتداخل السياسي بالإداري فأبشر بواقع صحي مهتز وخاضع لتقلبات السوق السياسية التي لا يضبطها ضابط في بلادنا كما نعلم، والمعروف هنا أن لون الإدارة الصحية خاضع للحزب الذي يحمل الحقيبة الوزارية، فإلى عهد قريب كان وردي اللون والهوى، لا نسبة إلى الوزير الحالي بل إلى حزب بادو، ولما جاء الوزير الوردي التقدمي على رأس الوزارة صار لونها رماديا أو أزرق غامقا، والمسألة هنا ليست مسألة ألوان زاهية أو باهتة، بل هي مسألة صراعات سياسية وتوازنات انتخابية وحكومية تجر معها قطاعات بأكملها، فمع تغيير كل وزير تنقلب الوزارة رأسا على عقب وتبدأ المساومات فيعزل هذا ويولى هذا مركزيا، وحتى إقليميا تبدل المندوبيات ألوانها، ومادام ما سيأتي بمندوب معين إلى موقع المسؤولية المرتبط بالامتيازات هو الانتماء الحزبي وليس شيئا آخر، فإن الهاجس السياسوي والانتخابي يرافق المسؤول طوال مدة ترؤسه لتلك الإدارة، هكذا فإن كافة قراراته وكل برنامجه لإصلاح الصحة بالمندوبية إن كان لديه برنامج أصلا سيكون خاضعا لرؤية الحزب السياسية وليس متطلبات المنصب الإدارية، وعموما فإن سيد المواقف يكون غالبا قضاء المآرب السياسية وتعزيز مواقع الحزب والحفاظ على التوازنات السياسية من أجل تحصيل المزيد من المكاسب الدسمة، ونحن هنا إذ نتحدث عن دور مندوبيات الصحة فإننا لا نتحدث عن إدارة صغيرة أو محدودة التأثير، فهي علاوة على كونها إدارة لصون وعلاج صحة المواطنين بالإقليم بالأساس فيقع على عاتقها أيضا الكثير من المسؤوليات الأخرى والشؤون التي تهم شرائح واسعة من المواطنين من ساكنة مستفيدة من مختلف الخدمات، وكذا من موظفين ومهنيين يشكلون لب القطاع وعموده الفقري وأساس اشتغاله.
وحين يكون ما يحكم مسؤولي قطاع الصحة هو رؤية محدودة ونظرة ضيقة مقيدة بالأجندات السياسية والانتخابية، فإن واقع الصحة بل ومستقبل القطاع ككل، يكون مريضا في خطر وقد يقع في أزمة قلبية في أية لحظة.
متصرف بمهام ممرض
ومن يتحدث عن مندوبية أو مديرية للصحة فإنه يتحدث عن أنظمة صحية وبنيات استشفائية وطبية بحاجة لمشاريع واعدة وإدارة ناجعة للموارد البشرية، وحين يكون كل هذا بيد كائنات حزبية انتخابية فإنه يظل في مهب المصالح السياسية والأهواء الحزبية والتحالفات الموسمية العابرة كسحاب الصيف، كل هذا يوجه الاهتمام بجهة على حساب أخرى أو فئة على حساب أخرى حسب تموقع المسؤول الإداري الذي هو في الآن نفسه منتخب سياسي وفق منظومة انتخابية مغربية خاصة تبنى على المصالح وقضاء المآرب المتبادلة والحوائج الآنية دون أدنى نظرة للمستقبل والعمل بالمؤسسات والاستراتيجيات المستقبلية.
كل هذا إذن يضعف من قوة الإدارة وحزم المسؤول الإداري وسلامة وقوة قراراته، فالمسؤول بوزارة الصحة في إقليم بأكمله وهو في الآن نفسه منتخب سياسي في جماعة ترابية أخرى قد تكون خارج الإقليم، مهما حاول التجرد والعمل بالمنطق الإداري المحض فإنه لن يستطيع وسيظل رهين قاعدته الانتخابية التي هي خزان أصواته، والنتيجة أن تجد المسؤول، والنماذج متوافرة، يستخدم مركزه الإداري ومكتب إدارته لتقديم خدمات لمواطنين ضمن دائرته الانتخابية بشكل حصري، ومن المسؤولين من يتخذ مكتبه الإداري عيادة لاستقبال المرضى من ناخبيه، وهو ما يؤثر حتما على مردوده الإداري في التسيير فيصير مجرد لقاء قصير معه من لدن إطار صحي قد يأتي من أقاصي الإقليم أمرا صعبا قد لا يظفر به إلا بعد عدة محاولات، فماذا تكون أولى انشغالات مندوب الصحة مثلا غير الإنصات لمشاكل واحتياجات مهنيي الصحة والعمل جديا على حلها والدفاع عنها لدا المصالح الوزارية؟ تلك إذن من معضلات هذا القطاع العمومي في جانب التسيير، فجمع بعض المسؤولين الكبار بين مسؤولياتهم الإدارية في قطاع حيوي وحساس وبين مسؤولياتهم السياسية التمثيلية سيؤثر سلبا على القطاع وهو أمر غير معقول ولا يساهم إلا في تراجع مردودية المسؤول في حل مشاكل القطاع، أما مردوديته في التمثيلية الانتخابية فذلك شأنه وشأن من انتخبوه وحتما لن يفلح في ذلك أيضا.
ومن الآثار السلبية كذلك، سوء الإدارة الصحية والناتجة عن العجز عن تدبير أمثل للموارد البشرية كأن يقوم المندوب بنقل إطار صحي إلى مركز صحي غير ذاك المركز الذي تم تعيينه فيه بمقتضى مذكرة تعيين وزارية والذي ينتظر أن يقوم فيه بدور يخفف من أعباء العمل على باقي أعضاء الطاقم مما سيزيد الجودة، و في مسألة الجودة حيث ترفع الوزارة هذا الشعار في إطار ما يسمى بمباراة الجودة، أما حقيقة الأمر أن لا جودة إلا على المخططات والورق، بل حتى استمرارية المرفق العمومي كمقتضى قانوني متعارف عليه وبديهي يعرف اختلالا خطيرا متمثلا في توقف بعض المستوصفات عن تقديم خدماتها للمواطنين في حالة الإجازة الإدارية المستحقة للممرض أو الطبيب، أو أكثر من ذلك الرخصة المرضية أو رخصة الولادة ذات الثلاثة أشهر، فإذا كان المستوصف لا يتوفر إلا على إطار واحد فإنه قد يغلق شهرا أو ثلاثة بشكل كامل، وكل ما يعمله المسؤولون هو تقديم حلول ترقيعية لا علاقة لها بالسير العادي والمفترض للعمل في أبسط شروطه، ويبقى الحديث عن الجودة في مثل هذه الحالات ضربا من الأحلام.
كل هذا يرهق الأطر الصحية وكذا المواطنين،وهو ما ينزل بمستوى الخدمات إلى مستوى ضعيف.
وكل ما سبق في ظل هضم الكثير من حقوق الموظفين وسط تعتيم إداري وكذا إعلامي كبير، ولعل أكبر مثال لهذه الفئات، وكما سبق ونشرنا على صفحات هذه الجريدة، نذكر فئة من المتصرفين الإداريين بقطاع الصحة لازالوا يزاولون مهام ممرض دون أدنى شروط الممارسة المهنية الصحيحة وتسوية الوضعية بشكل أو بآخر، ودون أو يراوح هذا الملف مكانه ودون أن تعمل الإدارة على حلحلة المشكل أو على الأقل صرف التعويضات المستحقة لهؤلاء الموظفين- المتصرفين الممرضين- في إطار ما يقومون به من مهام على أرض الميدان.
والأسئلة المطروحة بإلحاح وبقلق هي: ما دور المسؤولين في هذا القطاع، إن لم يكن إيجاد مقاربات حلول مناسبة لمثل هذه المعضلات؟ لماذا يستفيدون من تلك الكراسي الوثيرة والمكاتب المكيفة والتعويضات السمينة إن لم ينتجوا حلولا تحد من معاناة الأطر العاملة في الميدان، ويخططوا من أجل تطوير القطاع؟ لماذا يتوفرون على تلك السيارات الفارهة ووقودها على حساب الدولة، إن لم يستخدموها فقط للتنقل إلى كل نقطة حيث يشتغل الأطر التابعة لهم، ويروا عن كثب المشاكل والظروف التي يعملون فيها ويسارعوا بحلها في الحين؟ لماذا يتوفر المسؤول في الوزارة على مكتب مريح وراتب أريح وسيارة مريحة وتعويضات مجزية، إن لم يعمل على إيجاد كل الصيغ التي تحل عقدة بعض الملفات والقضايا العالقة والمعمرة في الوزارة؟
تتعدد الأسئلة ويخيل إليك في كثير من الأحيان أن إدارة القطاع الصحي وكثير غيرها من الإدارات أنها تسير على غير هدى، فالكثير من الحقوق تهضم ولا يوجد أقل مجهود يبذل لإنصاف أصحابها، والبرامج الصحية تعلن والكثير منها يبقى نظريا بين إصدار المذكرة والإشعار بها بشكل متأخر غالبا.. إلى إصدار التقرير المكتوب من وحي الخيال والقلم.
في الغالب الأعم لا تخطيط محكما ولا متابعة لسير البرامج، ولا تشجيع ولا تحفيز للمهنيين حتى المتميزين منهم، وإن كان من إيجابيات في قطاع الصحة فإن كثرة السلبيات تحجبها.
وإلى مقال آخر لرصد اختلالات أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى