احذروا حراك الرغيف 1.2
طبيعي أن يُستقبل عزيز رباح وزير الطاقة والمعادن والتنمية المستدامة من طرف ممثلي النقابات في جرادة بهجوم حاد بسبب تقاعسه عن القيام بواجبه، فالخبر الذي عممه رباح على وسائل الإعلام أراد من ورائه إيهام الرأي العام بأنه سحب 1400 رخصة لاستخراج المعادن من أصحابها لعدم احترامهم لدفتر التحملات، لأن الحقيقة هي أن رباح لم يسحب إلى حدود اليوم رخصة واحدة في جرادة، ونتحداه أن يثبت العكس.
إن ما يحدث في جرادة يدعونا جميعا إلى التساؤل، فبالأمس كانت هذه المدينة عمالية بامتياز، وكانت بالنسبة إلى من عرفها أيام عزها وازدهارها أيقونة المدن المنجمية بشمال إفريقيا، بثروتها الطاقية وبإمكانياتها السياحية، كانت جرادة تبهر زائريها بجبلها الأسود الشامخ الذي تتناوب على الصعود إلى قمته والنزول منها عربتان حديديتان ضخمتان مثبتتان على سكة مائلة، للتخلص من مخلفات الفحم المستخرج من قعر الأرض بشكل منتظم وبلا توقف ليل نهار، وهو الجبل الذي كان يرتدي حلته البيضاء كل فصل شتاء، عندما تكسوه الثلوج التي لم تكن تخلف موعدها مع جرادة ونواحيها.
كانت المدينة تضم مناجم الفحم الحجري التي تم البدء في استغلالها منذ سنة 1927 من طرف مهندسي شركة “أوغري ماريهاي” البلجيكية بعدما كانوا قد “رموا عليها العين” حتى قبل توقيع عقد الحماية، وذلك منذ 1908، كما كانت تضم مصانع متعددة مرتبطة بصناعة الفحم الحجري والأنتراسيت وتفرعاته بكل من حاسي بلال وكنفودة، وسكة حديدية تعرف رحلات منتظمة تصلها بعاصمة الشرق، وتنقل عبرها الفحم الحجري إلى مختلف الأسواق، وضمت في ما بعد مركبا حراريا لتوليد الطاقة الكهربائية بواسطة الفحم الحجري، والذي أحدثته الدولة بدعم سخي من الاتحاد السوفياتي سابقا، عندما كان السوفييت يراهنون على خلق طبقة البروليتاريا بجرادة وغيرها من المناطق المنجمية والصناعية، في أفق زرع أنوية شيوعية موالية لهم بها، لكي تصبح طليعة ثورية يعتمد عليها عندما تدق ساعة الحسم، أو أن يدفعوا على الأقل الدولة الوطنية إلى انتهاج سياسة تأميم تبعدها عن الهيمنة الإمبريالية وفق نموذج عالم ثالثي سائد آنذاك، لذلك فقد ساعد رفاق ليونيد بريجنيف المغرب على إنشاء هذا المصنع المبرمج ضمن مخططه الخماسي 1958/1972، في إطار بروتوكول تنمية العلاقات الاقتصادية بين المغرب والاتحاد السوفياتي، بعد الزيارة الملكية التي قام بها الحسن الثاني رحمه الله إلى موسكو خلال أكتوبر من سنة 1966.
وكان من المتوقع أن يوفر هذا المركب الحراري كامل احتياجات المنطقة من الطاقة الكهربائية باستغلال مباشر للفحم الحجري المستخرج بعين المكان، حيث تراوحت إنتاجيته بين 30 و40 بالمائة من حاجيات المغرب الطاقية، قبل أن تنخفض إلى أدنى مستوياتها وتصل إلى 6 بالمائة فقط بعد إعطاء الانطلاقة للمحطات الحرارية بكل من المحمدية والجرف الأصفر والقنيطرة، لتستقر مساهمة جرادة الطاقية في ما بعد في نسبة 13 بالمائة حاليا حسب آخر المعطيات المتوفرة.
وكل ما حصلت عليه جرادة من هذا المصنع لحد الآن هو بضعة مناصب عمل، والكثير من الأدخنة السامة والنفايات الملوثة، وفواتير كهرباء ثقيلة وغير مبررة، والغريب أننا ما زلنا إلى اليوم بصدد بناء ميناء بكامله بآسفي الذي تم الشروع فيه منذ 10 مارس 2013 على عهد عزيز رباح عندما كان يحمل حقيبة التجهيز ولم يكتمل لحد الآن، من أجل استيراد الفحم الحجري عبره لكي يستعمل بالمحطة الحرارية الجديدة هناك في إنتاج الكهرباء، في الوقت الذي أصبح بإمكاننا توليد الطاقة المتجددة والنظيفة بدون غبار أسود ولا تلوث مياه ولا هم يحزنون.
وقد واكبت هذه الحركة الصناعية والمنجمية الدؤوبة بجرادة ونواحيها حركة نقابية نشيطة وحركة ثقافية غنية تمثلت أساسا في ازدهار النشاط المسرحي تحت إشراف مسرح مفاحم جرادة وما أفرزه من رواد الخشبة ورجال المسرح المشاهير أمثال الراحلين محمد سعيد عفيفي وجمال الدين الدخيسي وغيرهما.
ورغم أن استغلال مناجم جرادة ظل منذ اكتشافها استغلالا مشتركا بين المغرب وفرنسا وبلجيكا، فقد أصبحت شركة مفاحم شمال إفريقيا منذ 1972 شركة مغربية خالصة بنسبة 99 بالمائة من الأسهم، غير أن التاريخ يأبى إلا أن يؤكد لنا مع الأسف الشديد أن الاستعمار، رغم جبروته وعنصريته، كان أرحم بمدننا وقرانا من بعض أبناء جلدتنا، إذ سرعان ما ستفقد جرادة بسبب سوء التسيير وغياب الشفافية والحكامة الجيدة بريقها ورونقها تدريجيا، مثلها مثل غالبية القرى والمدن التي كانت في ظل الاستعمار تنعت بباريس الصغيرة، وأضحت اليوم نسيا منسيا، وسيطولها التشويه العمراني والفساد السياسي بشكل ممنهج، على منوال ما كتبه الباحث الألماني “باربر يوهانس” في دراسته حول سياسة “ترييف المدن” و”التحول المعاق” بالمغرب.
وقد استمر تدهور المدينة، مع دخول شركة “مفاحم شمال إفريقيا” التي غيرت اسمها إلى شركة “مفاحم المغرب” في دوامة المشاكل المالية التي تفاقمت بسبب المنافسة الصينية الشرسة لتجارة الفحم عالميا، وارتفاع كلفة استخراجه محليا بالمقارنة مع كلفة استيراده، خصوصا من جنوب إفريقيا، إلى أن تم اتخاذ القرار بإغلاق المنجم بعد إبرام اتفاقية اجتماعية بتاريخ 17 فبراير 1998 وقعتها المركزيات النقابية الثلاث المهيمنة آنذاك، وهي نقابات بن الصديق، أفيلال والأموي، تحت تأثير الترغيب والترهيب من إدريس البصري وأجهزته، حيث تم توقيع الاتفاقية بين الفرقاء الاجتماعيين والحكومة في شخص وزير الطاقة والمعادن آنذاك إدريس بنهيمة، وهو ما اعتبر في حينه حكما بالإعدام في حق المدينة التي انهارت قيمة عقاراتها وبارت تجارتها، وتحولت إلى مدينة للبطالة والموت البطيء، بسبب انعدام بدائل اقتصادية حقيقية، وغياب تصور عقلاني مندمج للنهوض بها، وازداد بؤس سكانها مع ارتفاع حالات مرض السليكوز القاتل الذي ينخر صدور العمال المنجميين القدامى، والذين ازدادت أوضاعهم الصحية والمادية تأزما بعد إغلاق مستشفى ابن رشد في أكتوبر 2009 الذي كانت الحكومة قد وعدت من خلال الاتفاقية بتخصيصه لعلاجهم مجانا، واضطرارهم إلى السفر إلى مناطق أكثر بعدا طلبا للحد الأدنى من العلاج.
وعلى خلاف ما كان متوقعا فإن إغلاق المنجم أدى إلى نهب ممتلكاته من طرف بعض تجار الأزمات، الذين تكالبوا على إرث المدينة بسرقة تجهيزات وآليات شركة المفاحم، وبيعها في سوق الخردة، ليراكموا ثروات طائلة جراء ذلك، ويتحولوا بين عشية وضحاها إلى سياسيين محترفين وتجار انتخابات.
كما كان من انعكاسات إغلاق المنجم إعلان شركات أخرى عن إفلاسها كنتيجة غير مباشرة للكساد الذي ضرب المنطقة، منها شركة سيكوبا بكنفودة التي اضطرت إلى إغلاق أبوابها تحت ضغط المديونية الخانقة، مما أدى إلى تشريد العشرات من العمال، كما أدى الوضع المتأزم إلى فقدان المنطقة لجاذبيتها، ورحيل مشاريع أخرى في غياب بدائل اقتصادية واقعية وجدية، وحتى تلك المشاريع التي شجعتها الدولة لامتصاص البطالة بالمنطقة، تبين أنها كانت مجرد وعود سرعان ما تم الالتفاف عليها، ولم تكن في جوهرها سوى مشاريع بسيطة ومؤقتة لذر الرماد في العيون، إذ لم تتعد في مجملها بضع شركات ذات المسؤولية المحدودة، المعدودة على رؤوس الأصابع، والتي أبانت عن محدودية مردوديتها أيضا، فلم يعد أمام شباب المنطقة بعدما سئموا النزول إلى الشارع للمطالبة بالتشغيل، وبعدما طابت جلودهم بهراوات السلطة، إلا النزول إلى أعماق “الساندريات”، وهي عبارة عن بقايا المناجم التي لم يتم طمرها، حيث ظل هؤلاء الشباب يؤمنون لقمة العيش منها، مقابل المغامرة بحياتهم من أجل استخراج الفحم الحجري وبيعه للمضاربين وتجار الأزمات الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، والذين بنوا مجدهم على أنقاض المدينة ومآسي سكانها، وصمت وتواطؤ الجهات الوصية، بحيث وصل بعضهم إلى قبة