شوف تشوف

الرأي

أبو الحسن سمنون.. الشاعرُ المحبُّ

توفي 297ه، بغداديّ المولد والوفاة، غير أن تاريخ ميلاده بقي إلى اليوم مجهولا. اسمه الكامل أبو الحسن سمنون حمزة الخواص، شاعر صوفي، موهوب في نظم شعر الحب الإلهي حتى لقّب بـ «سمنون المحب». وهل يستطيع الشعر، والكلمات عموماً، أن تسعف الشاعر على نظم محبته للذات الإلهية؟
يقول سمنون المحب:
«وكان قلبي خالياً قبل حبكم= وكان بذكر الخلق يلهو ويمزح.
فلما دعا قلبي هواك أجابه = فلست أراه عن فِنانِكَ يبرح.
رميت ببين منك إن كنتُ كاذباً = إذا كنتُ في الدنيا بغيرك أفرح.
وإن كان شيء في البلاد بأسرها = إذا غبت عن عيني بعيني يلمح.
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل = فلست أرى قلبي لغيرك يصلح».
ويقول في مقطع شعري آخر:
«أنا راض بطول صدك عني = ليس إلا لأن ذلك هواكا.
فامتحن بالجفا صبري على = الود ودعني معلقاً برجاكا».
فأخذه الأسر (الاحتباس البولي) من ساعته، فكان يقول للفتيان الصغار الذين كانوا يتعلمون في الكتاتب: «أدعوا لعمكم الكذاب».
وقيل عن الرجل إنه أنشد بيتاً قريباً من المعنى السابق:
«وليس لي في هواك حظ = فكيفما شئت فاختبرني».
تعليقاً على هذه الأبيات الشعرية البديعة أقول ما يلي:
أولا: لو أنّ مثل هذا الكلام كتبه أو حتى قاله شاعر بيننا اليوم، لاتهم بالكفر والزندقة، ولوجدت أحدهم يتطوع، بدون سابق إعلام أو طلب، ليفتي بقتله بعد أن تقطع أطرافه من خلاف، كما حدث لشهيد العشق الإلهي أبي منصور الحلاج. لكن الله شاء، لحكمة هو يعلمها، ألا يكون سمنون المحب في زمننا الذي نعيش فيه خبل التطرف.
ثانيا: إن الحمولة الشعرية والروحية التي تتضمنها المقاطع السابقة على بساطتها قوية معنى ومبنى، ولا يدرك حقيقتها إلا من احترق بلهيب الحب، شوقاً واشتياقاً. أما ما سوى ذلك فلا يعدو أن يكون فقط اقتراباً من دائرة المعنى وليس مغامرة في معرفة مركزها. وليس من جرّب الحب كمن سمع عنه.. هذا عن الحب البشري فما بالك بالحب الإلهي الذي حيّر القلوب لوعة وصبابة وذكراً؟
ينسب إلى عبد الجبار النفريّ قول جميل مفاده «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، بمعنى أنه كلّما عبرت أخطأت، فلا نكون في اللغة إلا قاب قوسين أو أدنى من الحب، ليس كل الحب ولا بعضه، ليس قليلا ولا كثيراً، إنما هي  في نظر أصحابها كلمات فقط، أما جوهر القول وأذواقه الجمالية المرتبطة بسرائر القوم، فلا تنقلها اللغة حتماً. وليس بعيداً عنا قول المتفلسف الألماني مارتن هيدغر: «اللغة مسكن الكائن»، وحسبي أن هذا القول لا يصف بشكل دقيق ماهية اللغة الصوفية الغارقة في الرمزية، أو لعله يحوم حولها، إنما الذي يقارب معاني اللغة الصوفية «اللا-لغة مسكن الصوفي». وإلا كيف يمكن أن نفهم الصمت كتجربة روحية، ذاك الصمت غير المتعارف عليه بين الناس، يلجأ إليه المتصوفة في حالاتهم. إنه أعمق من اللغة ذاتها.. وأسلمُ من القول!
لهذا نجد كثيرا من الصوفية توصف أشعارهم وحكمهم بالشطح، ومعناه ليس كما فهمه عامة الناس، أي هو الرقص،كما هو الحال في المناسبات الشعبية (الشطيح)، وإنما معناه ببساطة شديدة هو الخروج عن مألوف اللغة عند عامة الناس، لا كفر ولا زندقة. كقول سمنون المحب مثلا:
«أمسي بخدي للدموع رسوم = أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم.
والصبر يحسن في المواطن كلها = إلا عليك فإنه مذموم».
فما نناقشه هنا هو «اللغة الصوفية» وليس المعتقد، فمثل هذا النقاش محسوم في ديننا الحنيف حتى مع أكبر مفكري الإلحاد، «لا أعبد ما تعبدون لكم دينكم ولي دين».. أما أسرار الحق فبينه وأوليائه كما يقول الشيخ الصوفي المنسي ابن تيمية، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
تعابير قوية نجدها في متن فلاسفة التصوف في تعريف التصوف، مثل «الفناء في الله» و «البقاء بـالله» و «الموت الأصفر» و «الموت الأحمر» و «الموت الأزرق».. وغيرها كثير.. أكثرها إشارات تبتعد عن العبارات بمدلولها المادي لدى المتخيل الجمعي المتداول عند عامة الناس. وإن كنت لا أميل إلى مخاطبة الناس بتلك العبارات خوفاً على عقولهم ورأفة بقلوبهم، فكم من محب مات في حضرة الحب كما هو الشأن في مجالس المولى عبد القادر الجيلاني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى